الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)} لما قامت الحجة عليها بما لا قبل لهم بالتنصل منه أعقبت بالتفريع على افترائهم الكذب وذلك مما عرف من أحوالهم من اتخاذهم الشركاء له كما أشار إليه قوله: {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا} أي أشركوا إلى قوله: {لننظر كيف تعملون} [يونس: 13، 14] وتكذيبهم بآيات الله في قولهم: {ائت بقرآن غير هذا أو بدّله} [يونس: 15]. وفي ذلك أيضاً توجيه الكلام بصلاحيته لأن يكون إنصافاً بينه وبينهم إذ هم قد عرضوا بنسبته إلى الافتراء على الله حين قالوا: {ائت بقرآن غير هذا} [يونس: 15]، وصرحوا بنفي أن يكون القرآن من عند الله، فلما أقام الحجة عليهم بأن ذلك من عند الله وأنه ما يكون له أن يأتي به من تلقاء نفسه فُرع عليه أن المفتري على الله كذباً والمكذبين بآياته كلاهما أظلم الناس لا أحد أظلم منهما، وذلك من مجاراة الخصم ليعثر، يخيل إليه من الكلام أنه إنصاف بينهما فإذا حصحص المعنى وُجد انصبابه على الخصم وحده. والتفريع صالح للمعنيين، وهو تفريع على ما تقدم قبله مما تضمن أنهم أشركوا بالله وكذبوا بالقرآن. ومحل (أو) على الوجهين هو التقسيم، وهو إما تقسم أحوال، وإما تقسم أنواع. والاستفهام إنكاري. والظلم: هنا بمعنى الاعتداء. وإنما كان أحد الأمرين أشد الظلم لأنه اعتداء على الخالق بالكذب عليه وبتكذيب آياته. وجملة: {إنه لا يفلح المجرمون} تذييل، وموقعه يقتضي شمول عمومه للمذكورين في الكلام المذيَّل (بفتح التحتية) فيقتضي أن أولئك مجرمون، وأنهم لا يفلحون. والفلاح تقدم في قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} في سورة [البقرة: 5]. وتأكيد الجملة بحرف التأكيد ناظر إلى شمول عموم المجرمين للمخاطبين لأنهم ينكرون أن يكونوا من المجرمين. وافتتاح الجملة بضمير الشأن لقصد الاهتمام بمضمونها.
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} على جملة: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} [يونس: 15] عطفَ القصة على القصة. فهذه قصة أخرى من قصص أحوال كفرهم أن قالوا: {ائت بقرآن غير هذا} [يونس: 15] حين تتلى عليهم آيات القرآن، ومن كفرهم أنهم يعبدون الأصنام ويقولون: {هم شفعاؤنا عند الله}. والمناسبة بين القصتين أن في كلتيهما كفراً أظهروه في صورة السخرية والاستهزاء وإيهام أن العذر لهم في الاسترسال على الكفر، فلعلهم (كما أوهموا أنه إنْ أتاهم قرآن غيرُ المتلو عليهم أو بُدل ما يرومون تبديلَه آمنوا) كانوا إذا أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعذاب الله قالوا: تشفع لنا آلهتنا عند الله. وقد روى أنه قاله النضر بن الحارث (على معنى فرض ما لا يقع واقعاً) «إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعُزّى». وهذا كقول العاص بن وائل، وكان مشركاً، لخبّاب بن الأرت، وهو مسلم، وقد تقاضاه أجراً له على سيف صنعه «إذا كان يوم القيامة الذي يُخبر به صاحبك (يعني النبي صلى الله عليه وسلم فسيكون لي مال فأقضيك منه». (وفيه نزل قوله تعالى: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوُتَيَنَّ مالاً وولداً} [مريم: 77] الآية. ويجوز أن تكون جملة: {ويعبدون} الخ عطفاً على جملة: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً} [يونس: 17] فإن عبادتهم ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الافتراء. وإيثار اسم الموصول في قوله: {ما لا يضرهم ولا ينفعهم} لما تؤذن به صلة الموصول من التنبيه على أنهم مُخطئون في عبادة ما لا يضر ولا ينفع، وفيه تمهيد لعطف {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} لتحقير رأيهم من رجاء الشفاعة من تلك الأصنام، فإنها لا تقدر على ضر ولا نفع في الدنيا فهي أضعف مقدرة في الآخرة. واختيار صيغة المضارع في {يعبدون} و{يقولون} لاستحضار الحالة العجيبة من استمرارهم على عبادتها، أي عبدوا الأصنام ويعبدونها تعجيباً من تصميمهم على ضلالهم ومن قولهم: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} فاعترفوا بأن المتصرف هو الله. وقُدم ذكر نفي الضر على نفي النفع لأن المطلوب من المشركين الإقلاع عن عبادة الأصنام وقد كان سدنتها يخوفون عبدَتها بأنها تُلحق بهم وبصبيانهم الضر، كما قالت امرأة طفيل بن عمرو الدوسي حين أخبرها أنه أسلم ودعاها إلى أن تُسلم فقالت: «أما تخشى على الصبية من ذي الشَّرى». فأريد الابتداء بنفي الضر لإزالة أوهام المشركين في ذلك الصَّادَّة لكثير منهم عن نبذ عبادة الأصنام. وقد أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يرد عليهم بتهكم بهم بأنهم قد أخبروا الله بأن لَهم شفعاء لهم عنده. ومعنى ذلك أن هذا لما كان شيئاً اخترعوه وهو غير واقع جعل اختراعه بمنزلة أنهم أعلموا الله به وكان لا يعلمه فصار ذلك كناية عن بطلانه لأن ما لم يعلم الله وقوعه فهو منتف. ومن هذا قول من يريد نفي شيء عن نفسه: ما علم الله هذا مني. وفي ضده قولهم في تأكيد وقوع الشيء: يعلم الله كذا، حتى صار عند العرب من صيغ اليمين. و {في السماوات ولا في الأرض} حال من الضمير المحذوف بعد {يعلم} العائد على (ما)، إذْ التقدير: بما لا يعلمه، أي كائناً في السماوات ولا في الأرض. والمقصود من ذكرهما تعميم الأمكنة، كما هو استعمال الجمع بين المتقابلات مثل المشرق والمغرب. وأعيد حرف النفي بعد العاطف لزيادة التنصيص على النفي. والاستفهامُ في {أتنبئون} للإنكار والتوبيخ. والإنباء: الإعلام. وجملة: {سبحانه وتعالى} إنشاء تنزيه، فهي منقطعة عن التي قبلها فلذلك فصلت. وتقدم الكلام على نظيره عند قوله: {وخرّقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون} في سورة [الأنعام: 100]. (و (ما) في قوله: عما يشركون} مصدرية، أي عن إشراكهم، أي تعالى عن أن يكون ذلك ثابتاً له. وقرأ حمزة والكسائي وخلف {تشركون} بالمثناة الفوقية على أنه من جملة المقول. وقرأه الباقون بالتحتية على أنها تعقيب للخطاب بجملة {قُل}. وعلى الوجهين فهي مستحقة للفصل لكمال الانقطاع.
{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)} ة معترضة بين جملة [يونس: 18] وجملة: {ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه} [يونس: 20]. ومناسبة الاعتراض قوله: {قل أتنبئون الله بما لا يعلم} لأن عبادة الأصنام واختراع صفة الشفاعة لها هو من الاختلاف الذي أحدثه ضلال البشر في العقيدة السليمة التي فطر الله الناس عليها في أول النشأة، فهي مما يشمله التوبيخ الذي في قوله: {أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} [يونس: 18]. وصيغة القصر للمبالغة في تأكيد الخبر لأنه خبر مهم عجيب هو من الحِكم العُمرانية والحقائق التاريخية بالمكان الأسمى، إذ القصر تأكيد على تأكيد باعتبار اشتماله على صيغتي إثبات للمثبَت ونفي عما عداه، فهو أقوى من تأكيد رد الإنكار، ولذلك يؤذن برد إنكار شديد. وحسَّن القصر هنا وقوعه عقب الجدال مع الذين غيروا الدين الحق وروجوا نحلتهم بالمعاذير الباطلة كقولهم: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18]، وقوله: {ما نبعدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3]، بخلاف آية سورة [البقرة: 213] {كان الناس أمة واحدة} فإنها وقعت في سياق المجادلة مع أهل الكتاب لقوله: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} [البقرة: 211] وأهل الكتاب لا ينكرون أن الناس كانوا أمة واحدة. فآية هذه السورة تشير إلى الوحدة الاعتقادية ولذلك عبر عن التفرق الطارئ عليها باعتبار الاختلاف المشعر بالمذمة والمعقب بالتخويف في قوله: {ولولا كلمة سبقت} إلى آخره، وآية سورة البقرة تشير إلى الوحدة الشرعية التي تجمعها الحنيفية الفطرية، ولذلك عبر عن التفرق الذي طرأ عليها بأن الله بعث النبيئين مبشرين ومنذرين، ثم جاء ذكر الاختلاف عرضاً عقب ذلك بقوله: {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213]. وأريد به الاختلاف بين أتباع الشرائع لقوله: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه} [البقرة: 213]. وتقدم القول في {كان الناس أمة واحدة} في سورة [البقرة: 213]. والناس: اسم جمع للبشر. وتعريفه للاستغراق. والأمة: الجماعة العظيمة التي لها حال واحد في شيء مَّا. والمراد هنا أمة واحدة في الدين. والسياق يدل على أن المراد أنها واحدة في الدين الحق وهو التوحيد لأن الحق هو الذي يمكن اتفاق البشر عليه لأنه ناشيء عن سلامة الاعتقاد من الضلال والتحْريف. والإنسان لما أنشئ على فطرة كاملة بعيدة عن التكلف. وإنما يتصور ذلك في معرفة الله تعالى دون الأعمال، لأنها قد تختلف باختلاف الحاجات، فإذا جاز أن يحدث في البشر الضلال والخطأ فلا يكون الضلال عاماً على عقولهم، فتعين أن الناس في معرفة الله تعالى كانوا أمة واحدة متفقين على التوحيد لأن الله لما فطر الإنسان فطره على عقل سليم موافق للواقع، ووَضَع في عقله الشعور بخالق وبأنه واحد وضعاً جِبلِّياً كما وضَع الإلهامات في أصناف الحيوان. وتأيد ذلك بالوحي لأبي البشر وهو آدم عليه السلام. ثم إن البشر أدخلوا على عقولهم الاختلاف البعيد عن الحق بسبب الاختلاق الباطل والتخيل والأوهام بالأقيسة الفاسدة. وهذا مما يدخل في معنى قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [التين: 4 6]، فتعين أن المراد في هذه الآية بكون الناس أمةً واحدة الوحدة في الحق، وأن المقصود مدح تلك الحالة لأن المقصود من هذه الآية بيان فساد الشرك وإثبات خطأ منتحليه بأن سلفهم الأول لم يكن مثلهم في فساد العقول، وقد كان للمخاطبين تعظيم لما كان عليه أسلافهم، ولأن صيغة القصر تؤذن بأن المراد إبطال زعم من يزعم غير ذلك. ووقوعُه عقب ذكر من يعبدون من دون الله أصناماً لا تضرهم ولا تنفعهم يدل على أنهم المقصود بالإبطال، فإنهم كانوا يحسبون أن ما هم عليه من الضلال هو دين الحق، ولذلك صوروا إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام في الكعبة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح «كَذبوا والله إِنْ استقسما بها قَطِ، وقرأ: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين} [آل عمران: 67]» وبهذا الوجه يجعل التعريف في {الناس} للاستغراق. ويجوز أن يراد بالناس العربُ خاصة بقرينة الخطاب ويكون المراد تذكيرهم بعهد أبيهم إبراهيم عليه السلام إذ كان هو وأبناؤه وذريتهم على الحنيفية والتوحيدِ كما قال تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني بَراء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمةً باقية في عقبه لعلهم يرجعون} [الزخرف: 26 28]، أي في عقبه من العرب، فيكون التعريف للعهد. وجملة: {ولولا كلمة سبقت من ربك} إخبار بأن الحق واحد، وأن ذلك الاختلاف مذموم، وأنه لولا أن الله أراد إمهال البشر إلى يوم الجزاء لأراهم وجه الفصل في اختلافهم باستيصال المُبطل وإبقاءِ المحق. وهذه الكلمة أجملت هنا وأشير إليها في سورة [الشورى: 14] بقوله: {ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مُسمى لقضي بينهم.} والأجل: هو أجل بقاء الأمم، وذلك عند انقراض العالم، فالقضاء بينهم إذن مؤخر إلى يوم الحساب. وأصرح من ذلك في بيان معنى (الكلمة) قولُه في سورة [هود: 118] {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمةُ ربك لأملأنَّ جهنم من الجنة والناس أجمعين} وسيأتي بيانها. وتقديم المجرور في قوله: فيما فيه يختلفون} للرعاية على الفاصلة.
{وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)} عطف على جملة: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} [يونس: 18]، فبعد أن ذكر افتراءهم في جانب الإلهية نفى بهتانهم في جانب النبوءة. والضمير في {عليه} عائد للنبيء صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر قبل ذلك في الآية، فإن معرفة المراد من الضمير مغنية عن ذكر المعاد. وقد كان ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بينهم في نواديهم ومناجاتهم في أيام مُقامه بينهم بعد البعثة هو شغلهم الشاغل لهم، قد أجرى في كلامهم ضمير الغيبة بدون سبق معاد، علم المتخاطبون أنه المقصود. ونظير هذا كثير في القرآن. و (لولا) في قوله: {لولا أنزل عليه آية من ربه} حرف تحْضيض، وشأن التحْضيض أن يواجه به المحضض لأن التحضيضَ من الطلب وشأنُ الطلب أن يواجَه به المطلوب، ولذلك كان تعلق فعل الإنزال بضمير الغائب في هذه الآية مُؤولاً بأحد وجهين: إما أن يكون التفاتاً، وأصل الكلام: لولا أنزل عليكَ، وهو من حكاية القول بالمعنى كقوله تعالى: {قل لعبادي الذين آمنوا يُقيموا الصلاة} [إبراهيم: 31] أي قل لهم أقيموا، ونكتة ذلك نكتة الالتفات لتجديد نشاط السامع. وإما أن يكون هذا القول صدر منهم فيما بينهم ليبين بعضُهم لبعض شبهة على انتفاء رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو صدر منهم للمسلمين طمعاً في أن يردوهم إلى الكفر. والآيةُ: علامة الصدق. وأرادوا خارقاً للعادة على حسب اقتراحهم مثل قولهم: {أو ترقى في السماء} [الإسراء: 93] وقولهم: {لولا أوتي مثلَ ما أوتي موسى} [القصص: 48] وهذا من جهلهم بحقائق الأشياء وتحكيمهم الخيال والوهَم في حقائق الأشياء، فهم يفرضون أن الله حريص على إظهار صدق رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه يستفزّه تكذيبهم إياه فيغضب ويسرع في مجاراة عنادهم ليكفوا عنه، فإن لم يفعل فقد أفحموه وأعجزوه وهو القادر، فتوهموا أن مدعي الرسالة عنه غير صادق في دعواه وما دَرَوا أن الله قَدر نظام الأمور تقديراً، ووضع الحقائق وأسبابها، وأجرى الحوادث على النظام الذي قدره، وجعل الأمور بالغة مواقيتها التي حدد لها، ولا يضره أن يُكذّب المكذّبون أو يعاند الجاهلون وقد وضع لهم ما يليق بهم من الزواجر في الآخرة لا محالة، وفي الدنيا تارات، كل ذلك يجري على نُظم اقتضتها الحكمةُ لا يحمله على تبديلها سُؤال سائل ولا تسفيه سفيه. وهو الحكيم العليم. فهم جعلوا استمرار الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوتهم بالأدلة التي أمره الله أن يدعوهم بها وعدم تبديله ذلك بآيات أخرى على حسب رغبتهم جعلوا كل ذلك دليلاً على أنه غير مؤيد من الله فاستدلوا بذلك على انتفاء أن يكون الله أرسله، لأنه لو أرسله لأيَّده بما يوجب له القبول عند المرسَل إليهم. وما درى المساكين أن الله إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة بهم وطلباً لصلاحهم، وأنه لا يضره عدم قبولهم رحمته وهدايته. ولذلك أتَى في حكاية كلامهم العدولُ عن اسم الجلالة إلى لفظ الرب المضاف إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: {من ربه} إيماء إلى الربوبية الخاصة بالتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم وهي ربوبية المصطفي (بصيغة اسم الفاعل) للمصطفى (بصيغة المفعول) من بين بقية الخلق المقتضية الغضب لغضبه لتوهمهم أن غضب الله مثل غضب الخلائق يستدعي الإسراع إلى الانتقام وما علموا أسرار الحكمة الإلهية والحكم الإلهي والعلم الأعلى. وقد أمر الله رسوله بأن يجيب عن اقتراحهم بما هو الحقيقة المرشدة وإن كانت أعلى من مداركهم جواباً فيه تعريض بالتهديد لهم وهو قوله: {فقل إنما الغيبُ لله}، فجاء بفاء التفريع هنا دون بعض نظائره للإشارة إلى تعقيب كلامهم بالجواب شأن المتمكن من حاله المتثبت في أمره. والغيب: ما غاب عن حواس الناس من الأشياء، والمراد به هنا ما يتكون من مخلوقات غير معتادة في العالم الدنيوي من المعجزات. وتفسير هذا قوله: {قل إنما الآيات عند الله} [الأنعام: 109]. واللام للملك، أي الأمور المغيبة لا يقدر عليها إلا الله. وجاء الكلام بصيغة القصر للرد عليهم في اعتقادهم أن في مكنة الرسول الحق أن يأتي بما يسأله قومُه من الخوارق، فجعلوا عدم وقوع مقترحهم علامة على أنه ليس برسول من الله، فلذلك رد عليهم بصيغة القصر الدالة على أن الرسول ليس له تصرف في إيقاع ما سألوه ليعلموا أنهم يرمون بسُؤالهم إلى الجراءة على الله تعالى بالإفحام. وجملة: {فانتظروا إني معكم من المنتظرين} تفريع على جملة: {إنما الغيب لله} أي ليس دأبي ودأبكم إلاّ انتظار ما يأتي به الله إن شاء، كقول نوح لقومه: {إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين} [هود: 33]. وهذا تعريض بالتهديد لهم أن ما يأتي به الله لا يترقبون منه إلا شراً لهم، كقوله تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقُضي الأمر ثم لا ينظرون} [الأنعام: 8]. والمعية في قوله: {معكم} مجازية مستعملة في الإشراك في مطلق الانتظار.
{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)} لما حكى تمرد المشركين بيّن هنا أنهم في ذلك لاهون ببطرهم وازدهائهم بالنعمة والدَّعة فأنساهم ما هم فيه من النعمة أن يتوقعوا حدوث ضده فتفننوا في التكذيب بوعيد الله أفانين الاستهزاء، كما قال تعالى: {وذرني والمكذبين أولي النّعمة ومهِّلهم قليلاً} [المزمل: 11]. وجاء الكلام على طريقة الحكاية عن حالهم، والمُلقَى إليه الكلام هو النبي صلى الله عليه وسلم والمُؤمنون. وفيه تعريض بتذكير الكفار بحال حلول المصائب بهم لعلهم يتذكرون، فيعدوا عدة الخوف من حلول النقمة التي أنذرهم بها في قوله {فانتظروا} [يونس: 20] كما في الحديث: «تَعَرَّف إلى الله في الرخاء يَعْرِفْك في الشدة» فالمراد ب {الناس} الناس المعهودون المتحدث عنهم بقرينة السياق على الوجهين المتقدمين في قوله تعالى: {وإذا مَس الإنسان الضر دعانا لجنبه} [يونس: 12]. وقد قيل: إن الآية تشير إلى ما أصاب قريشاً من القحط سبعَ سنين بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ثم كَشف الله عنهم القحط وأنزل عليهم المطر، فلما حيوا طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدون له. والقحط الذي أصاب قريشاً هو المذكور في سورة الدخان. وقد أنذروا فيها بالبطشة الكبرى. وقال ابن عباس: هي بطشة يوم بدر. فتكون هذه الآية قد نزلت بعد انقراض السبع السنين التي هي كسني يوسف وبعد أن حيُوا، فتكون قد نزلت بعد سنة عشر من البعثة أو سنة إحدى عشرة. والإذاقة: مستعملة في مطلق الإدراك استعارةً أو مجازاً، كما تقدم في قوله: {ليذوق وبال أمره} في سورة [العقود: 95]. والرحمة: هنا مطلقة على أثر الرحمة، وهو النعمة والنفع، كقوله: {وينشر رحمته} [الشورى: 28]. والضراء: الضر. والمس: مستعمل في الإصابة. والمعنى إذا نالت الناس نعمة بعد الضر، كالمطر بعد القحط، والأمن بعد الخوف، والصحة بعد المرض. و (إذا) في قوله: {إذا لهم مكرٌ} للمفاجأة، وهي رابطة لجواب (إذا) الشرطية لوقوعه جملة اسمية وهي لا تصلح للاتصال بإذا الشرطية التي تلازمها الأفعال إن وقعت ظرفاً ثم إن وقعت شرطاً فلا تصلح لأن تكون جواباً لها، فلذلك أدخل على جملة الجواب حرف (إذا) الفجائية، لأن حرف المفاجأة يدل على البِدار والإسراع بمضمون الجملة، فيُفيد مُفاد فاء التعقيب التي يؤتى بها الربط جواب الشرط بشرطه، فإذا جاء حرف المفاجأة أغنى عنها. والمكرُ: حقيقته إخفاء الإضرار وإبرَازه في صورة المسألة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ومكروا ومكر الله} في سورة [آل عمران: 54]. و (في) من قوله: في آياتنا} للظرفية المجازية المرادُ منها الملابسة، أي مكرهم المصاحب لآياتنا. ومعنى مكرهم في الآيات أنهم يمكرون مكراً يتعلق بها، وذلك أنهم يوهمون أن آيات القرآن غير دالة على صدق الرسول ويزعمون أنه لو أنزلت عليه آية أخرى لآمنوا بها وهم كاذبون في ذلك وإنما هم يكذبونه عناداً ومكابرة وحفاظاً على دينهم في الشرك. ولما كان الكلام متضمناً التعريض بإنذارهم، أمر الرسول أن يعظهم بأن الله أسرع مكراً، أي منكم، فجعل مكر الله بهم أسرع من مكرهم بآيات الله. ودل اسم التفضيل على أن مكر الكافرين سريع أيضاً، وذلك لما دل عليه حرف المفاجأة من المبادرة وهي إسراع. والمعنى أن الله أعجل مكراً بكم منكم بمكرمكم بآيات الله. وأسرعُ: مأخوذ من أسرع المزيدِ على غير قياس، أو من سَرع المجرد بناء على وجوده في الكلام فيما حكاه الفارسي. وأطلق على تأجيل الله عذابهم اسم المكر على وجه الاستعارة التمثيلية لأن هيئة ذلك التأجيل في خفائه عنهم كهيئة فعل الماكر، وحسنته المشاكلة كما تقدم في آية آل عمران. وجملة: {إنّ رسلنا يكتبون ما تمكرون} استئناف خطاب للمشركين مباشرة تهديداً من الله، فلذلك فصلت على التي قبلها لاختلاف المخاطب. وتأكيد الجملة لكون المخاطبين يعتقدون خلاف ذلك، إذ كانوا يحسبون أنهم يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأن مكرهم يتمشى عليه ولا يشعر به فأعلمهم الله بأن الملائكة الموكلين بإحصاء الأعمال يكتبون ذلك. والمقصود من هذا أن ذلك محصي معدود عليهم لا يهمل، وهو إنذار بالعذاب عليه، وهذا يستلزم علم الله تعالى بذلك. وعبر بالمضارع في {يكتبون} و{يمكرون} للدلالة على التكرر، أي تتكرر كتابتهم كلما يتكرر مكرهم، فليس في قوله: {ما تمكرون} التفات من الغيبة إلى الخطاب لاختلاف معادي الضميرين. وقرأه الجمهور {ما تمكرون} بتاء الخطاب. وقرأه روح عن يعقوب {ما يمكرون} بياء الغائب، والضمير ل {الناس} في قوله: {وإذا أذقنا الناس رحمة}. وعلى هذه القراءة فالكلام موجه للنبيء صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)} {هُوَ الذى يُسَيِّرُكُمْ فِى البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} {فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الارض بِغَيْرِ الحق} هذه الجملة بدل اشمال من جملة {وإذا أذقنا الناس رحمة} [يونس: 21] إلى آخرها لأن البغي في الأرض اشتمل عليه المكر في آيات الله. والمقصود من هذه الجملة هو قوله: {فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض} وما سواه تمهيد وإدماج للامتنان. أعقب التهديد على كفران النعمة بذكر بعض نعم الله عليهم ثم ضَراء تعقب النعمة للابتلاء والتذكير بخالقهم، ثم كيف تُفرج عنهم رحمةً بهم فيكفر فريق منهم كلتا النعمتين ولا يتذكر، فكان المقصود أنَّ في ذلك أعظم الآيات على الوحدانية فكيف يقولون: {لولا أنزل عليه آية من ربه} [يونس: 20] وفي كل شيء له آية، وفي كل ذلك امتنان عليهم بالنعمة وتسجيل لكفرانها ولتوارد الآيات عليهم ولكيلا يغتروا بالإمهال فيحسبوه رضى بكفرهم أو عجزاً عن أخذهم، وهذا موقع رشيق جد الرشاقة لهذه الآية القرآنية. وإسناد التسْيير إلى الله تعالى باعتبار أنه سببه لأنه خالق إلهام التفكير وقوى الحركة العقلية والجسدية، فالإسناد مجاز عقلي، فالقصر المفاد من جملة: {هو الذي يسيركم} قصر ادعائي. والكلام مستعمل في الامتنان والتعريض بإخلالهم بواجب الشكر. و {حتى} ابتدائية، وهي غاية للتسيير في البحار خاصة. وإنما كانت غاية باعتبار ما عطف على مدخولها من قوله: {دَعَوا الله} إلى قوله {بغير الحق}، والمغيَّا هو ما في قوله {يسيركم} من المنة المؤذنة بأنه تسيير رفق ملائم للناس، فكان ما بعد (حتى) ومعطوفاتها نهايةَ ذلك الرفق، لأن تلك الحالة التي بعد (حتى) ينتهي عندها السير المنعَم به ويدخلون في حالة البأساء والضراء، وهذا النظم نسج بديع في أفانين الكلام. ومن بديع الأسلوب في الآية أنها لما كانت بصدد ذكر النعمة جاءت بضمائر الخطاب الصالحة لجميع السامعين، فلما تهيأت للانتقال إلى ذكر الضراء وقع الانتقال من ضمائر الخطاب إلى ضمير الغيبة لتلوين الأسلوب بما يخلصه إلى الإفضاء إلى ما يخص المشركين فقال: {وجَرين بهم} على طريقة الالتفات، أي وجرين بكم. وهكذا أجريت الضمائر جامعة للفريقين إلى أن قال: {فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق} فإن هذا ليس من شيم المؤمنين فتمحض ضمير الغيبة هذا للمشركين، فقد أخرج من الخبر مَن عدا الذين يبغون في الأرض بغير الحق تعويلاً على القرينة لأن الذين يبغون في الأرض بغير الحق لا يشمل المسلمين. وهذا ضرب من الالتفات لم ينبه عليه أهل المعاني وهو كالتخصيص بطريق الرمز. وقد عدت هذه الآية من أمثلة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في ضمائر الغيبة كلها تبعاً «للكشاف» بناء على جعل ضمائر الخطاب للمشركين وجعل ضمائر الغيبة لهم أيضاً، وما نحوتُه أنا أليق. وابتدئ الإتيان بضمير الغيبة من آخر ذكر النعمة عند قوله: {وجرين بهم بريح طيبة} للتصريح بأن النعمة شملتهم، وللإشارة إلى أن مجيء العاصفة فجأة في حال الفرح مراد منه ابتلاؤهم وتخويفهم. فهو تمهيد لقوله: {وجاءهم الموج من كل مكان}. والسير في البر معروف للعرب. وكذلك السير في البحر. كانوا يركبون البحر إلى اليمن وإلى بلاد الحبشة. وكانت لقريش رحلة الشتاء إلى اليمن وقد يركبون البحر لذلك. وقد وصف طرفة بن العبد السفن وسيرها، وذكرها عمرو بن كلثوم في معلقته، والنابغة في داليته. وقرأ الجمهور {يُسيّركم} بتحتية في أوله مضمومة فسين مهملة بعدها تحتية بعدها راء من السير، أي يجعلكم تسيرون. وقرأه ابن عامر وأبو جعفر {ينشركم} بتحتية مفتوحة في أوله بعدها نون ثم شين معجمة ثم راء من النّشر، وهو التفريق على نحو قوله تعالى: {إذا أنتم بشر تنتشرون} [الروم: 20] وقوله: {فانتشروا في الأرض} [الجمعة: 10]. قال ابن عطية عن عوف بن أبي جميلة وأبي الزغل: كانوا (أي أهل الكوفة) يقرأون {ينشركم} فنظروا في مصحف عثمان بن عفان فوجدوها {يسيركم} (أي بتحتية فسين مهملة فتحتية) فأوَّل من كتبها كذلك الحجاج بن يوسف، أي أمر بكتبها في مصاحب أهل الكوفة. و {حتى} غاية للتسيير. وهي هنا ابتدائية أعقبت بحرف المفاجأة وجوابِه، والجملة والغايةُ هي مفاد جواب {إذا} وهو قوله: {جاءتها ريح عاصف}، فمجيء الريح العاصف هو غاية التسيير الهنيء المنعم به، إذ حينئذٍ ينقلب التسيير كارثة ومصيبة. والفلك: اسم لمَركَب البحر، واسم جمع له بصيغة واحدة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} في سورة [البقرة: 164]. وهو هنا مراد به الجمع. والجري: السير السريع في الأرض أو في البحر، قال تعالى: {باسم الله مجراها} [هود: 41] والظاهر أنه حقيقة فيهما. والريح مؤنثة في كلام العرب. وتقدم في قوله: {وهو الذي يرسل الرياح نشراً بين يَدي رحمته} في سورة [الأعراف: 57]. والطيبة: الملائمة الرفيقة بالراكبين. والطيب: الموصوف بالطِيب الشديد. وأصل معنى الطيب الملاءمة فيما يراد من الشيء، كقوله تعالى: {فلنحيينه حياةً طيبة} [النحل: 97]، ويقال: طاب له المقام في مكان كذا. ومنه سمي الشيء الذي له ريح وعرف طِيباً. وجملة: {جاءتها ريح عاصف} جواب {إذَا}. وفي ذكر جَريهن بريح طيبة وفرحهم بها إيماء إلى أن مجيء العاصفة حدث فجأة دون توقع من دلالة علامات النوتية كما هو الغالب. وفيه إيماء إلى أن ذلك بتقديرٍ مرادٍ لله تعالى ليخوفهم ويذكرهم بوحدانيته. وضمير {جاءتها} عائد إلى {الفُلك} لأن جمع غير العاقل يعامل معاملة المفرد المؤنث. والعاصف: وصف خاص بالريح، أي شديدة السرعة. وإنما لم تلحقه علامة التأنيث لأنه مختص بوصف الريح فاستغنى عن التأنيث، مثل: نافس وحائض ومرضع، فشاع استعماله كذلك، وذكر وصفاً للريح فبقي لا تلحقه التاء. وقالوا: إنما لم تلحقه التاء لأنه في معنى النسب، مثل: لابن، وتامر. وفيه نظر. ومعنى {من كل مكان} من كل جهة من جهات الفُلك، فالابتداء الذي تفيده (من) ابتداء الأمكنة المتجهة إلى الفلك. ومعنى {أحيط بهم} أخذوا وأهلكوا، فالعرب يقولون: أحاط العَدو بالقبيلة إذا تمكن منها وغلبها، لأن الإحاطة بها تدل على الإحداق بها وتطويقها. ولما كان ذلك هزيمة وامتلاكاً لها صار ترتيب {أحيط بهم} استعارة تمثيلية للهلاك كما تقدم في قوله تعالى: {والله محيط بالكافرين} [البقرة: 19] وقوله تعالى: {لتأتنني به إلا أن يُحاط بكم} [يوسف: 66] وقوله: {وأحيط بثمره} [الكهف: 42] أي هلكت. فمعنى {وظنوا أنهم أحيط بهم} ظنوا الهلاك. وجملة: {دعَوا الله مخلصين} جواب {إذا}. ومعنى مخلصين له الدين ممحضين له العبادة في دعائهم، أي دعوه ولم يدعوا معه أصنامهم. وليس المراد أنهم أقلعوا عن الإشراك في جميع أحوالهم بل تلك حالتهم في الدعاء عند الشدائد. وهذا إقامة حجة عليهم ببعض أحوالهم، مثل قوله تعالى: {أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون} [الأنعام: 40، 41]. وجملة: {لئن أنجيتنا} بيان لجملة {دَعوا} لأن مضمونها هو الدعاء. والإشارة ب {هذه} إلى حالة حاضرة لهم، وهي حالة إشرافهم على الغرق، فالمشار إليه هو الحالة المشاهدة لهم. وقد أكد وعدهم بالشكر بثلاث مؤكدات: لاممِ توطئة القسم، ونوننِ التوكيد، والتعبير بصيغة {من الشاكرين} دون لنكونن شاكرين، لما يفيده من كونهم من هذه الزمرة التي ديدنها الشكر، كما تقدم بيان خصوصية مثل هذا التركيب عند قوله تعالى: {قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين} في سورة [الأنعام: 56]. وأتى بحرف (إذا) الفجائية في جواب (لما) للدلالة على تعجيلهم بالبغي في الأرض عقب النجاة. والبغي: الاعتداء. وتقدم في قوله: {والإثم والبغي بغير الحق} في سورة [الأعراف: 33]. والمراد به هنا الإشراك كما صُرح به في نظيرها {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} [العنكبوت: 65]. وسمي الشرك بغياً لأنه اعتداء على حق الخالق وهو أعظم اعتداء، كما يسمى ظلماً في آيات كثيرة منها قوله: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]. ولا يحسن تفسير البغي هنا بالظلم والفساد في الأرض، إذ ليس ذلك شأن جميعهم فإن منهم حلماء قومهم، ولأنه لا يناسب قولَه بعد {إنما بغيكم على أنفسكم}. ولمعنى هذه الآية في القرآن نظائر، كقوله: {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربّه منيباً إليه ثم إذا خَوَّله نعمة منه نسي ما كَان يدعُو إليه من قبل وجَعل لله أنداداً ليضل عن سبيله} [الزمر: 8] الآية. وزيادة {في الأرض} لمجرد تأكيد تمكنهم من النجاة. وهو كقوله تعالى: {فلما نجّاهم إلى البر فمنهم مقتصد} [لقمان: 32] أي جعلوا مكان أثر النعمة بالنجاة مكاناً للبغي. وكذلك قوله: {بغير الحق} هو قيد كاشف لمعنى البغي، إذ البغي لا يكون بحق، فهو كالتقييد في قوله تعالى: {ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50]. استئناف خطاب للمشركين وهم الذين يبغون في الأرض بغير الحق. وافتُتح الخطاب ب {يأيها الناس لاستصغاء أسماعهم. والمقصود من هذا تحذير المشركين ثم تهديدهم. وصيغة قصر البغي على الكون مُضراً بهم كما هو مفاد حرف الاستعلاء تنبيه على حقيقة واقعية وموعظة لهم ليعلموا أن التحذير من الشرك والتهديد عليه لرعي صلاحهم لا لأنهم يضرونه كقوله: {ولا تضروه شيئاً} [التوبة: 39]. فمعنى (على) الاستعلاء المجازي المكنَّى به عن الإضرار لأن المستعلي الغالب يضر بالمغلوب المستعلَى عليه، ولذلك يكثر أن يقولوا: هذا الشيء عليك، وفي ضده: هذا الشيء لك، كقوله: {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} [فصلت: 46]. ويقول المقر: لك عليّ كذا. وقال توبة بن الحمير: وقد زعمت ليلى بأني فاجر *** لنفسي تُقاها أو عليها فجورها وقال السموأل اليهودي: أليَ الفضل أمْ عليّ إذا حُو *** سِبْتُ أني على الحساب مُقيت وذلك أن (على) تدل على الإلزام والإيجاب، واللام تدل على الاستحقاق. وفي الحديث: " القرآنُ حجة لك أو عليك ". فالمراد بالأنفس أنفس الباغين باعتبار التوْزيع بين أفراد معاد ضمير الجماعة المخاطبين في قوله: {بغيكُم} وبين أفراد الأنفس، كما في قولهم: «ركب القوم دوابَّهم» أي، ركب كل واحد دابته. فالمعنى إنما بغي كل أحد على نفسه، لأن الشرك لا يُضر إلا بنفس المشرك باختلال تفكيره وعمله ثم بوقوعه في العذاب. و {متاع} مرفوع في قراءة الجمهور على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي هو متاعُ الحياة الدنيا. وقَرأه حفص عن عاصم بالنصب على الحال من (بغيكم). ويجوز أن يكون انتصابه على الظرفية للبغي، لأن البغي مصدر مشتق فهو كالفعل فناب المصدر عن الظرف بإضافته إلى ما فيه معنى المدة. وتوقيت البغي بهذه المدة باعتبار أنه ذكر في معرض الغضب عليهم، فالمعنى أنه أمهلكم إمهالاً طويلاً فهلاّ تتذكرون؟ فلا تحسبون الإمهال رضى بفعلكم ولا عجزاً وسيُؤاخدكم به في الآخرة. وفي كلتا القراءتين وجوهٌ غير ما ذكرنا. والمتاع: ما ينتفع به انتفاعاً غير دائم. وقد تقدم عند قوله تعالى: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} في سورة [الأعراف: 24]. والمعنى على كلتا القراءتين واحد، أي أمهلناكم على إشراككم مدة الحياة لا غير ثم نؤاخذكم على بغيكم عند مرجعكم إلينا. وجملة: ثم إلينا مرجعكم} عطفت ب (ثم) لإفادة التراخي الرتبي لأن مضمون هذه الجملة أصرح تهديداً من مضمون جملة {إنما بغيكم على أنفسكم}. وتقديم المجرور في قوله: {إلينا مرجعكم} لإفادة الاختصاص، أي ترجعون إلينا لا إلى غيرنا تنزيلاً للمخاطبين منزلة من يظن أنه يرجع إلى غير الله لأن حالهم في التكذيب بآياته والإعراض عن عبادته إلى عبادة الأصنام كحال من يظن أنه يحشر إلى الأصنام وإن كان المشركون ينكرون البعث من أصله. وتفريع {فننبئكم} على جملة: {إلينا مرجعكم} تفريع وعيد على تهديد. واستعمل الإنباء كناية عن الجزاء لأن الإنباء يستلزم العلم بأعمالهم السيئة، والقادر إذا علم بسوء صنيع عبده لا يمنعه من عقابه مانع. وفي ذكر {كنتم} والفعل المضارع دلالة على تكرر عملهم وتمكنه منهم. والوعيد الذي جاءت به هذه الآية وإن كان في شأن أعظم البغي فكان لكل آت من البغي بنصيب حظاً من هذا الوعيد.
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} هذه الآية تتنزل منزلة البيان لجملة {متاع الحياة الدنيا} [يونس: 23] المؤذنة بأن تمتعهم بالدنيا ما هو إلا لمدة قصيرة، فبينت هذه الآية أن التمتع صائر إلى زوال، وأطنبت فشبهت هيئة التمتع بالدنيا لأصحابها بهيئة الزرع في نضارته ثم في مصيره إلى الحصد. والمثَل: الحال الماثلة على هيئة خاصة، كان التشبيه هنا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة. عبر عن ذلك بلفظ المثل الذي شاع في التشبيه المركب كما تقدم في أول سورة البقرة. وصيغة القصر لتأكيد المقصُود من التشبيه وهو سرعة الانقضاء. ولتنزيل السامعين منزلة من يحسب دوام بهجة الحياة الدنيا لأن حالهم في الانكباب على نعيم الدنيا كحال من يحسب دوامه وينكر أن يكون له انقضاء سريع ومفاجئ. والمعنى: قصرُ حالة الحياة الدنيا على مشابهة حالة النبات الموصوف، فالقصر قصر قلب، بني على تنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد عكس تلك الحالة. شبهت حالة الحياة في سرعة تقضيها وزوال نعيمها بعد البهجة به وتزايد نضارتها بحال نبات الأرض في ذهابه حطاماً ومصيره حصيداً. ومن بديع هذا التشبيه تضمنه لتشبيهات مفرقة من أطوار الحالين المتشابهين بحيث يصلح كل جزء من هذا التشبيه المركب لتشبيه جزءٍ من الحاليْن المتشابهين، ولذلك أطنب وصف الحالين من ابتدائه. فقوله: {كماء أنزلناه من السماء} شُبه به ابتداء أطوار الحياة من وقت الصبا إذ ليس ثمة سوى الأمل في نعيم العيش ونضارته، فذلك الأمل يشبه حال نزول المطر من السماء في كونه سبب ما يؤمَّل منه مِن زخرف الأرض ونضارتها. وقوله: {فاختلط به نبات الأرض} شُبه به طور ابتداء نضارة العيش وإقبال زهرة الحياة، فذلك يشبه خروج الزرع بعيد المطر فيما يشاهد من بوارق المأمول، ولذلك عطف بفاء التعقيب للإيذان بسرعة ظهور النبات عقب المطر فيؤذن بسرعة نماء الحياة في أول أطوارها. وعبر عنه بالاختلاط بالماء بحيث ظهر قبل جفاف الماء، أي فاختلط النبات بالماء أي جاوره وقارنه. وقوله: {مما يأكل الناس والأنعام} وصف لنبات الأرض الذي منه أصناف يأكلها الناس من الخضروات والبقول، وأصنافٌ تأكلها الأنعام من العشب والكلأ، وذلك يشبَّه به ما ينعَم به الناس في الحياة من اللذات وما ينعم به الحيوان، فإن له حظاً في نعيم الحياة بمقدار نطاق حياته. ولما كان ذلك قد تضمن المأكول والآكل صح أن تُشبه به رغَبات الناس في تناول لذائذ الحياة على حسب اختلاف مراتب الهمم، وذلك يتضمن تشبيه معالي الأمور من نعم الدنيا التي تسمو إليها الهمم العوالي بالنبات الذي يقتاته الناس، وتشبيهَ سفاسف الأمور بالنبات الذي يأكله الأنعام، ويتضمن تشبيه الذين يجنحون إلى تلك السفاسف بالأنعام، كقوله تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام} [محمد: 12]. والقول في {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} كالقول في قوله: {حتى إذا كنتم في الفلك} [يونس: 22]، وهو غاية شبه بها بلوغ الانتفاع بخيرات الدنيا إلى أقصاه ونضوجه وتمامه وتكاثر أصنافه وانهماك الناس في تناولها ونسيانهم المصير إلى الفناء. وأمر الله: تقديره وتكوينه. وإتيانه: إصابة تلك الأرض بالجوائح المعجلة لها باليبس والفناء. وفي معنى الغاية المستفادِ من (حتى) ما يؤذن بأن بين مبدأ ظهور لذات الحياة وبين منتهاها مراتب جمة وأطواراً كثيرة، فذلك طوي في معنى (حتى). وقوله: {ليلاً أو نهاراً} ترديد في الوقت لإثارة التوقع من إمكان زوال نضارة الحياة في جميع الأزمنة لأن الشيء الموقت بمعين من التوقيت يكون الناس في أمن من حلوله في غير ذلك الوقت. والزخرف: اسم الذهب. وأطلق على ما يتزين به مما فيه ذهب وتلوين من الثياب والحلي. وإطلاق أخذ الأرض زخرفها على حصول الزينة فيها استعارةٌ مكنية. شبهت الأرض بالمرأة حين تريد التزين فتُحضر فاخر ثيابها من حلي وألوان. والعرب يطلقون على ذلك التناول اسم الأخذ، قال تعالى: {يا بني آدم خُذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31]، وقال بشار بن برد وخُذي ملابس زينة *** ومُصَبَّغات وهي أفخر وذكر {ازينت} عقب {زخرفها} ترشيح للاستعارة، لأن المرأة تأخذ زخرفها للتزين. و{ازّينت} أصله تزينت فقلبت التاء زَاياً؛ لتدغم في الزاي فسكنت وأدغمت واجتلبت همزة الوصل لأجل النطق بالساكن. واعلم أن في قوله تعالى: {أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً} إشارة لإرادة الاستئصال فهو ينذر بالتهديد للكافرين ويجعل التمثيل أعلق بحياتهم، كقوله تعالى: {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} [الأنعام: 44] لا سيما وقد ضرب هذا المثل لتمتع الكافرين ببغيهم وإمهالهم عليه، ويزيد تلك الإشارة وضوحاً قوله: {وظن أهلها أنهم قادرون عليها} المؤذنُ بأن أهلها مقصودون بتلك الإصابة. ومعنى: {أنهم قادرون عليها} أنهم مستمرون على الانتفاع بها محصلون لثمراتها، فأطلق على التمكن من الانتفاع ودوامه لفظ القدرة على وجه الاستعارة. والحصيد: المحصود، وهو الزرع المقطوع من منابته. والإخبار عن الأرض بحصيد على طريقة المجاز العقلي وإنما المحصود نباتها. ومعنى {لم تغْنَ} لم تَعْمُر، أي لم تعمر بالزرع. يقال: غَنِي المكان إذا عَمَر. ومنه المغنَى للمكان المأهول. وضد أغنى أقفر المكان. والباء في {بالأمس} للظرفية. والأمس: اليوم الذي قبل يومك. واللام فيه مزيدة لتملية اللفظ مثل التي في كلمة الآن. والمراد بالأمس في الآية مطلق الزمن الذي مضى لأن أمس يستعمل بمعنى ما مضى من الزمان، كما يستعمل الغد في معنى المستقبل واليوم في معنى الحال. وجمَعَها قولُ زهير: وأعلم عِلم اليوم والأمسسِ قبلَه *** ولكنني عن عِلم ما في غد عَمِ وجملة: {كذلك نفصل الآيات} إلى آخرها تذييل جامع، أي مثل هذا التفصيل نفصل أي نبين الدلالات كلها الدالة على عموم العلم والقدرة وإتقان الصنع. فهذه آية من الآيات المبينة وهي واحدة من عموم الآيات. وتقدم نظيره في قوله تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيلَ المجرمين} في سورة [الأنعام: 55]. واللام في لقوم يتفكرون} لام الأجْل. والتفكر: التأمل والنظر، وهو تفعل مشتق من الفكر، وقد مر عند قوله تعالى: {قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون} في سورة [الأنعام: 50]. وفيه تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بالآيات ليسوا من أهل التفكر ولا كان تفصيل الآيات لأجلهم. وتقدم ذكر لفظ القوم غير مرة في هذه السورة.
{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)} الجملة معطوفة على جملة {كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون} [يونس: 24]، أي نفصل الآيات التي منها آية حالة الدنيا وتقضيها، وندعو إلى دار السلام دارِ الخلد. ولما كانت جملة {كذلك نفصل الآيات} [يونس: 24] تذييلاً وكان شأن التذييل أن يكون كاملاً جامعاً مستقلاً جعلت الجملة المعطوفة عليها مثلها في الاستقلال فعُدل فيها عن الإضمار إلى الإظهار إذْ وضع قوله: {والله يدعو} موضع ندعو لأن الإضمار في الجملة يجعلها محتاجة إلى الجملة التي فيها المعاد. وحُذف مفعول {يدعو} لقصد التعميم، أي يدعو كل أحد. والدعوة هي: الطلب والتحريض. وهي هنا أوامر التكليف ونواهيه. ودار السلام: الجنة، قال تعالى: {لهم دار السلام عند ربهم}، وقد تقدم وجه تسميتها بذلك في سورة [الأنعام: 127]. والهداية: الدلالة على المقصود النافع، والمراد بها هنا خَلْق الاهتداء إلى المقصود بقرينة قوله: مَن يشاء} بعد قوله: {والله يدعُو} المفيد التعميمَ فإن الدعوة إلى الجنة دلالة عليها فهي هداية بالمعنى الأصلي فتعين أنَّ {يهدي} هنا معناه إيجاد الهداية بمعنى آخر، وهي حصول الاهتداء بالفعل، أي خلق حصوله بأمر التكوين، كقوله: {فريقاً هدَى وفريقاً حق عليهم الضلالة} [الأعراف: 30] وهذا التكوين يقع إما في كل جزئية من جزئيات الاهتداء على طريقة الأشاعرة، وإما بخلق الاستعداد له بحيث يقدر على الاهتداء عند حصول الأدلة على طريقة المعتزلة وهما متقاربان في الحال، وشؤون الغيب خَفية. وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6]. والصراط المستقيم: الطريق الموصل.
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)} هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [يونس: 25] لأن الهداية بمن يشاء تفيد مهدياً وغير مهدي. ففي هذه الجملة ذِكر ما يشتمل عليه كلا الفريقين، ولك أن تجعلها بدل مفصَّل من مجمل. ولما أوقع ذكر الذين أحسنوا في جملة البيان عَلم السامع أنهم هم الذين هداهم الله إلى صراط مستقيم وأن الصراط المستقيم هو العمل الحسن، وأن الحُسنى هي دار السلام. ويشرح هذه الآية قوله تعالى في سورة [الأنعام: 125 127]: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون وهذا صراط ربك مستقيماً قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون} والحسنى: في الأصل صفةُ أثنى الأحسن، ثم عوملت معاملة الجنس فأدخلت عليها لام تعريف الجنس فبعدت عن الوصفية ولَم تَتبع موصوفها. وتعريفها يفيد الاستغراق، مثل البُشرى، ومثل الصالحة التي جمعها الصالحات. والمعنى: للذين أحسنوا جنسُ الأحوال الحسنى عندهم، أي لهم ذلك في الآخرة. وبذلك تعين أن ماصْدقها الذي أريد بها هو الجنة لأنها أحسن مثوبة يصير إليها الذين أحسنوا وبذلك صيرها القرآن علماً بالغلبة على الجنة ونعيمها من حصول الملاذ العظيمة. والزيادة يتعين أنها زيادة لهم ليست داخلة في نوع الحُسنى بالمعنى الذي صار علماً بالغلبة، فلا ينبغي أن تفسر بنوع مما في الجنة لأنها تكون حينئذٍ مما يستغرقه لفظ الحسنى فتعين أنها أمر يرجع إلى رفعة الأقدار، فقيل: هي رضى الله تعالى كما قال: {ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر} [التوبة: 72]، وقيل: هي رؤيتهم الله تعالى. وقد ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في «صحيح مسلم» و«جامع الترمذي» عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، قالوا: ألم تبيض وجوهنا وتنجنا من النار وتدخلنا الجنة، قال: فيُكشف الحجاب، قال: فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه. وهو أصرح ما ورد في تفسيرها. والرهق: الغشيان. وفعله من باب فرح. والقَتَرُ: لوْنٌ هو غُبرة إلى السواد. ويقال له قترة والذي تخلص لي من كلام الأيمة والاستعمال أن القترة لون يغشى جلدة الوجه من شدة البؤس والشقاء والخوففِ. وهو من آثار تهيج الكَبد من ارتجاف الفؤاد خوفاً وتوقعاً. والذلة: الهوان. والمراد أثر الذلة الذي يبدو على وجه الذليل. والكلام مستعمل في صريحه وكنايته، أي لا تتشوه وجوههم بالقتر وأثر الذلة ولا يحصل لهم ما يؤثر القتر وهيئة الذلة. وليس معنَى نفي القتر والذلة عنهم في جملة أوصافهم مديحاً لهم لأن ذلك لا يخطر بالبال وقوعاً بعد أن أثبت لهم الحسنى وزيادة بل المعنى التعريض بالذين لم يهدهم الله إلى صراط مستقيم وهم الذين كسبوا السيئات تعجيلاً للمساءة إليهم بطريق التعريض قبل التصريح الذي يأتي في قوله: {وتَرهقهم ذلة} إلى قوله: {مظلماً} [يونس: 27]. وجملة: {أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} نتيجة للمقدمة، فبينها وبين التي قبلها كمال الاتصال ولذلك فصلت عنها ولم تعطف. واسم الإشارة يرجع إلى {الذين أحسنوا}. وفيه تنبيه على أنهم استحقوا الخلود لأجل إحسانهم نظير قوله: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5].
{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)} عطف على جملة {للذين أحسنوا الحسنى} [يونس: 26]. وعبر في جانب المسيئين بفعل {كسبوا السيئات} دون فعل أساءوا الذي عبر به في جانب الذين أحسنوا للإشارة إلى أن إساءتهم من فِعلهم وسعيهم فما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون. والموصول مراد به خصوص المشركين لقوله بعده: {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. فإن الخلود في النار لا يقع إلا للكافرين، كما دلت عليه الأدلة المتظافرة خلافاً للمعتزلة والخوارج. وجملة: {جزاءُ سيئة بمثلها} خبر عن {الذين كسبوا السيئات}. وتنكير (سيئة) للعموم، أي جزاء كل سيئة بمثلها، وهو وإن كان في سياق الإثبات فالعموم مستفاد من المقام وهو مقام عموم المبتدأ. كقول الحريري: يا أهلَ ذا المغنَى وُقيتم ضُرا *** أي كل ضر. وذلك العموم مُغن عن الرابط بين الجملة الخبرية والمبتدأ، أو يقدر مجرور، أي جَزاء سيئةٍ منهم، كما قدر في قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام} [البقرة: 196] أي فعليه. واقتصر على الذلة لهم دون زيادة ويَرهقهم قَتر، لأنه سيجيء ما هو أشد منه وهو قوله: {كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً}. وجملة: {ما لهم من الله من عاصم} خبر ثان، أو حال من {الذين كسبوا السيئات} أو معترضة. وهو تهديد وتأييس. والعاصم: المانع والحافظ. ومعنى {من الله} من انتقامه وجزائه. وهذا من تعليق الفعل باسم الذات، والمرادُ بعض أحوال الذات مما يدل عليه السياق مثل {حُرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3]. وجملة {كأنما أغشيت وجوهُهم} الخ بيان لجملة: {ترهقهم ذلة} بيانَ تمثيل، أو حالٌ من الضمير في قوله: {وترهقهم}. و {أغشيت} معدَّى غَشِي إذا أحاط وغَطا، فصار بالهمزة معدى إلى مفعولين من باب كسَا. وتقدم في قوله تعالى: {يُغشي الليلَ النهارَ} في [الأعراف: 54]، وقوله: {إذ يُغْشِيكُم النعاس} في [الأنفال: 11]. والقِطع بفتح الطاء في قراءة الجمهور: جمع قِطعة، وهي الجزء من الشيء، سمي قطعة لأنه يُقتطع من كل غالباً، فهي فعْلة بمعنى مفعولة نقلت إلى الاسمية. وقرأه ابن كثير والكسائي ويعقوب قِطْعاً} بسكون الطاء. وهو اسم للجزء من زمن الليل المظلم، قال تعالى: {فاسر بأهلك بقِطْع من الليل} [هود: 81]. وقوله: {مظلماً} حال من الليل. ووصف الليل وهو زمن الظلمة بكونه مظلماً لإفادة تمكن الوصف منه كقولهم: ليل أليل، وظل ظليل، وشعر شاعر، فالمراد من الليل الشديد الإظلام باحتجاب نجومه وتمكّن ظلمته. وشُبهت قَترة وجوههم بظلام الليل. وجملة: {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} هي كجملة {أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} [يونس: 26].
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)} هذه الجملة معطوفة على جملة {والذين كسبوا السيئات} [يونس: 27] باعتبار كونها معطوفة على جملة {للذين أحسنوا الحسنى} [يونس: 26] فإنه لما ذكر في الجملتين السابقتين ما يختص به كل فريق من الفريقين من الجزاء وسماته جاءت هذه الجملة بإجماللِ حالةٍ جامعةٍ للفريقين ثم بتفصيل حَالة يمتاز بها المشركون ليحصل بذلك ذكر فظيع من أحوال الذين بلغوا الغاية في كسب السيئات، وهي سيئة الإشراك الذي هو أكبر الكبائر، وبذلك حصلت المناسبة مع الجملة التي قبلها المقتضية عطفها عليها. والمقصود من الخبر هو ذكر حشرهم جميعاً، ثم ما يقع في ذلك الحشر من افتضاح الذين أشركوا، فكان مقتضى الظاهر أن يقال، ونحشرهم جميعاً. وإنما زيد لفظ {يوم} في صدر الجملة لأن ذلك اليوم لما كان هو زمن الحشر وأعماللٍ عظيمة أريد التذكير به تهويلاً وموعظة. وانتصاب {يوم نحشرهم} إما على المفعولية بتقدير: اذْكر، وإما على الظرفية لفعل مقدر يدل عليه قوله: {ثم نقول للذين أشركوا مكانكم} والتقدير: ونقول للذين أشركوا مكانكم يوم نحشر الناس جميعاً. وضمير {نحشرهم} للذين تقدم الكلام عليهم وهم الذين أحسنوا والذين كسبوا السيئات. وقوله: {جميعاً} حال من الضمير البارز في {نحشرهم} للتنصيص على إرادة عموم الضمير. وذلك أن الحشر يعم الناس كلهم. ومن نكت ذِكر حشر الجميع هُنا التنبيهُ على أن فظيعَ حال المشركين وافتضاحهم يكون بمرأى ومسمع من المؤمنين، فتكون السلامة من تلك الحالة زيادة في النعمة على المسلمين وتقوية في النكاية للمشركين. والحشر: الجمع من أمكنة إلى مكان واحد. وتقدم في قوله تعالى: {وحشرنا عليهم كل شيء} في سورة [الأنعام: 111]. وقوله: مكانَكم} منصوب على المفعولية بفعل محذوف تقديره: الزموا مكانكم، واستعماله هذا شائع في كلام العرب في الأمر بالملازمة مع التزام حذف العامل فيه حتى صار بمنزلة أسماء الأفعال الموضوعة للأمر، نحو: صَهْ، ويقترن بضمير مناسب للمخاطب من إفراد وغيره، قال عمرو بن الأطنابة: مكانَككِ تحمدي أو تستريحي *** وأمرُهم بملازمة المكان تثقيف وحَبس. وإذ قد جمع فيه المخاطَبون وشركاؤهم عُلِم أن ذلك الحبس لأجل جريمة مشتركة بين الفريقين، وهي كون أحد الفريقين عابداً والآخرِ معبوداً. وقوله: {أنتم} تأكيد للضمير المتصل المقدر في الفعل المقدر، وهو المسوغ للعطف عليه وبهذا العطف صار الشركاء مأمورين باللبث في المكان. والشركاء: الأصنام. وصفوا بالشركاء لاعتقاد المخاطبين ذلك، ولذلك أضيف إلى ضميرهم، أي أنتم والذين زَعمتم أنهم شركاء. فإضافة شركاء إلى ضمير المخاطبين تهكم. وعطف {فزيلْنا} بفاء التعقيب لإفادة حصول ذلك في عقب وقت الأمر باللبث. ولما كانت الفاء تقتضي الترتيب الزمني في حصول معطوفها إثر المعطوف عليه وكان المقصود هنا أن التزييل حصل مقارناً لإلزامهم المكان عبر عن فعل التزييل بصيغة الماضي لإفادة تحقيق وقوع التزييل كقوله: {أتى أمر الله} [النحل: 1]. وزيَّل: مضاعف زال المتعدي. يقال: زَاله عن موضعه يَزِيله بمعنى أزاله فجعلوه يائي العين للتفرقة بينه وبين زال القاصر الذي هو واوي العين، فزيَّل فعل للمبالغة في الزيْل مثل فَرَّق مبالغة في فرق. والمعنى وقع بينهم تفريق قوي بحيث انقطعت جميع الوِصَل التي كانت بينهم. والتزييل هنا مجازي فيشمل اختلاف القول. وتعليق التزييل بالأصنام باعتبار خلق معناه فيها حين أنطقها الله بما يخالف زعم عبّادها. وجملة {وقال شركاؤهم} عطف على جملة: {فزيلنا} فهو في حيز التعقيب، ويجوز جعلها حالاً. ويقول الشركاء هذا الكلام بخَلق نطق فيها خارق للعادة يفهمه الناس لإشعار أولئك العابدين بأن أصنامهم تبرأوا منهم، وذلك مما يزيدهم ندامة. وكلام الأصنام يفيد نفي أن يكونوا عبدوهم بل عبدوا غيرهم. وفي استقامة ذلك إشكال لأن الواقع أنهم عبدوهم وعبدوا غيرهم فكيف ينفي كلامهم عبادتهم إياهم وهو كلام خلقه الله فيهم فكيف يكون كذباً. وقد تأول المفسرون هذا بوجوه لا ينثلج لها الصدر. والذي ظهر لي أن يكون آخر كلام الأصنام مُبيناً لما أجمله أوله بأنهم نفوا أن يكونوا عبدوهم عبادةً كاملة وهي العبادة التي يقصِد منها العابد امتثال أمر المعبود وإرضاءه فتقتضي أن يكون المعبود عالماً وآمراً بتلك العبادة. ولما كانت الأصنام غير عالمين ولا آمرين استقام نَفْيهم أن يكون عبدتهم قد عبدوهم تلك العبادة وإنما عبدوا غيرهم ممن أمروهم بالعبادة وهم الشياطين ولذلك قالوا: {إنْ كنا عن عبادتكم لغافلين} كما تفسره الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {أهؤلاء إياكم كانوا يعبُدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} [سبأ: 40، 41]. فالمراد بالشركاء الأصنام لا غيرها، ويجوز أن يكون نُطقها بجحد عبادة المشركين هو أن خلق لها عقولاً فكانت عقولها مستحدثة يومئذٍ لم يتقرر فيها علم بأن المشركين عَبدوها. ويفسر هذا قولهم بعد ذلك {إن كنا عن عبادتكم لغافلين}. وجملة: {فكفى بالله شهيدا} مؤكدة بالقسم ليُثبتوا البراءة مما ألصق بهم. وجواب القسم {إن كنا عن عبادتكم لغافلين}. وليس قولهم: {كفى بالله شهيدا} قسما على كلامهم المتقدم لأن شأن القسم أن يكون في صدر الجملة. وعطفت جملة القسم بالفاء للدلالة على أن القسم متفرع على الكلام المتقدم لأن إخبارهم بنفي أن يكونوا يعبدونهم خبرٌ غريب مخالف لما هو مشاهد فناسب أن يفرع عليه ما يحققه ويبينه مع تأكيد ذلك بالقسم. والإتيان بفاء التفريع عند تعقيب الكلام بجملة قسمية من فصيح الاستعمال، كقوله تعالى: {كمَا أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} [الحجر: 90 93]. ومن خصائصه أنه إذا عطف بفاء التفريع كان مُؤكداً لما قبله بطريق تفريع القسم عليه ومؤكِّداً لما بعده بطريق جواب القسم به. وهذه الآية لم تفسَّر حق تفسيرها. والشهيد: الشاهد، وهو المؤيد والمصدّق لدعوى مدع، كما تقدم في قوله تعالى: {فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا} [النساء: 6]. و (كفى] بمعنى أجزأ وأغنى عن غيره. وتقدم في قوله تعالى: {وكفى بالله وليا} في سورة [النساء: 45]. وهو صيغة خبر مستعمل في إنشاء القسم. والباء مزيدة للتأكيد. وأصله كفى الله شهيداً. وانتصب: شهيدا} على التمييز لنسبة الكفاية إلى الله لما فيها من الإجمال. وجملة: {إن كنا عن عبادتكم لغافلين} جواب للقسم. (وإنْ) مخففة من (إنّ). واسمها ضمير شأن ملتزم الحذف. وجملة: {كنا عن عبادتكم لغافلين} مفسّرة لضمير الشأن. واللام فارقة بين (إنْ) المؤكدة المخففة و(إنْ) النافية. وتقديم قوله: {عن عبادتكم} على عامله للاهتمام وللرعاية على الفاصلة.
{هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)} {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} تذييل وفذلكة للجمل السابقة من قوله: {والله يدعو إلى دار السلام} [يونس: 25] إلى هنا. وهو اعتراض بين الجمل المتعاطفة. والإشارة إلى المكان الذي أنبأ عنه قوله: {نَحْشرهم} [يونس: 28] أي في ذلك المكان الذي نحشرهم فيه. واسم الإشارة في محل نصب على الظرفية. وعامله {تبلو}، وقدم هذا الظرف للاهتمام به لأن الغرض الأهم من الكلام لعظم ما يقع فيه. و {تبلو} تختبر، وهو هنا كناية عن التحقق وعلم اليقين. و{أسلفت} قدّمتْ، أي عملاً أسلفته. والمعنى أنها تختبر حالته وثمرته فتعرف ما هو حسن ونافع وما هو قبيح وضار إذ قد وضح لهم ما يفضي إلى النعيم بصاحبه، وضدُه. وقرأ الجمهور {تبلو} بموحدة بعد المثناة الفوقية. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بمثناة فوقية بعد المثناة الأولى على أنه من التلو وهو المتابعة، أي تتبع كل نفس ما قدمته من عمل فيسوقها إلى الجنة أو إلى النار. يجوز أن تكون معطوفة على جملة: {هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت} فتكون من تمام التذييل، ويكون ضمير (ردوا) عائداً إلى (كل نفس). ويجوز أن تكون معطوفة على قوله و{يوم نحشرهم جميعاً} [يونس: 28] الآية فلا تتصل بالتذييل، أي ونردهم إلينا، ويكون ضمير (ردوا) عائداً إلى الذين أشركوا خاصة. والمعنى تحقق عندهم الحشر الذي كانوا ينكرونه. ويناسب هذا المعنى قوله: {مولاهم الحق} فإن فيه إشعاراً بالتورك عليهم بإبطال مواليهم الباطلة. والرد: الإرجاع. والإرجاع إلى الله الإرجاع إلى تصرفه بالجزاء على ما يرضيه وما لا يرضيه وقد كانوا من قبل حين كانوا في الحياة الدنيا ممهلين غير مجازين. والمولى: السيد، لأن بينه وبين عبده ولاء عهد الملك. ويطلق على متولي أمور غيره وموفر شؤونه. والحقّ: الموافق للواقع والصدق، أي ردوا إلى الاله الحق دون الباطل. والوصف بالحق هو وصف المصدر في معنى الحاق، أي الحاق المولوية، أي دون الأولياء الذين زعموهم باطلاً. {وضل عنهم ما كانوا يفترون} هذه الجملة مختصه بالمشركين كما هو واضح. والضلال: الضياع. و {ما كانوا يفترون} ما كانوا يكذبون من نسبتهم الإلهية إلى الأصنام، فيجوز أن يكون ماصْدق (ما) الموصولة الأصنام، فيكون قد حذف العائد مع حرف الجر بدون أن يجر الموصول بمثل ما جر به العائد والحق جوازه، فالتقدير: ما كانوا يكذبون عليه أو له. وضلاله: عدم وجوده على الوصف المزعوم له. ويجوز أن يكون ماصدق (ما) نفس الافتراء، أي الافتراء الذي كانوا يفترونه. وضلاله: ظهور نَفْيِه وكذبه.
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)} انتقال من غرض إلى غرض في أفانين إبطال الشرك وإثبات توحد الله تعالى بالإلهية. وهذه الجملة تتنزل منزلة الاستدلال لقوله: {مولاهم الحق} [يونس: 30] لأنها برهان على أنه المستحق للولاية. فاحتج على ذلك بمواهب الرزق الذي به قوام الحياة، وبموهبة الحواس، وبنظام التناسل والتوالد الذي به بقاء الأنواع، وبتدبير نظام العالم وتقدير المقدرات، فهذه كلها مواهب من الله وهم كانوا يعلمون أن جميع ما ذكر لا يفعله إلا الله إذ لم يكونوا ينسبون إلى أصنامهم هذه الأمور، فلا جرم أن كان المختص بها هو مستحق الولاية والإلهية. والاستفهام تقريري. وجاء الاستدلال بطريقة الاستفهام والجواببِ لأن ذلك في صورة الحوار، فيكون الدليل الحاصل به أوقع في نفوس السامعين، ولذلك كان من طرق التعليم مما يراد رسوخه من القواعد العلمية أن يؤتى به في صورة السؤال والجواب. وقوله: {من السماء والأرض} تذكير بأحوال الرزق؛ ليكون أقوى حضوراً في الذهن، فالرزق من السماء المطر، والرزق من الأرض النبات كله من حب وثمر وكلأ. و (أم) في قوله: {أم من يملك السمع} للإضراب الانتقالي من استفهام إلى آخر. ومعنى: {يملك السمع والأبصار} يملك التصرف فيهما، وهو مِلك إيجاد تينك الحاستين وذلك استدلال وتذكير بأنفع صنع وأدقه. وأفرد {السمع} لأنه مصدر فهو دال على الجنس الموجود في جميع حواس الناس. وأما {الأبصار} فجيء به جمعاً لأنه اسم، فهو ليس نصاً في إفادة العموم لاحتمال توهم بصر مخصوص فكان الجمع أدل على قصد العموم وأنفى لاحتمال العهد ونحوه بخلاف قوله: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} [الإسراء: 36] لأن المراد الواحد لكل مخاطب بقوله: {ولا تقفُ ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36]. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} في سورة [الأنعام: 46]. وإخراجُ الحي من الميت: هو تولد أطفال الحيوان من النطف ومن البَيْض؛ فالنطفة أو البيضة تكون لا حياة فيها ثم تتطور إلى الشكل القابل للحياة ثم تكون فيها الحياة. و(مِن) في قوله: مِن الميت} للابتداء. وإخراج الميت من الحي إخراج النطفةِ والبيضضِ من الحيوان. والتعريف في {الحي} و{الميت} في المرتين تعريف الجنس. وقد نظم هذا الاستدلال على ذلك الصنع العجيب بأسلوب الأحاجي والألغاز وجعل بمحسن التضاد، كل ذلك لزيادة التعجيب منه. وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله: {وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي} في سورة [آل عمران: 27]. غير أن ما هنا ليس فيه رمز إلى شيء. وقوله: ومن يدبر الأمر} تقدم القول في نظيره في أوائل هذه السورة. وهو هنا تعميم بعد تخصيص ذكر ما فيه مزيد عبرة في أنفسهم كالعِبرة في قوله: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون} [الذاريات: 21، 22]. والفاء في قوله: {فسيقولون الله} فاء السببية التي من شأنها أن تقترن بجواب الشرط إذا كان غير صالح لمباشرة أداة الشرط، وذلك أنه قصد تسبب قولهم: {اللّهُ} على السؤال المأمور به النبيءُ عليه الصلاة والسلام، فنزل فعل {قل} منزلة الشرط فكأنه قيل: إن تَقل من يرزقكم من السماء والأرض فسيقولون الله، ومنه قوله تعالى: {قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا} [الإسراء: 51، 52]. وهذا الاستعمال نظير تنزيل الأمر من القول منزلة الشرط في جزم الفعل المقول بتنزيله منزلة جواب الشرط كقوله تعالى: {قل لعباديَ الذين آمنوا يقيمُوا الصلاة} [إبراهيم: 31] وقوله: {وقل لعبادِي يقولوا التي هي أحسن} [الإسراء: 53]. التقدير: إن تقل لهم أقيموا الصلاة يقيموا وإن تقل لهم قولوا التي هي أحسن يقولوا. وهو كثير في القرآن على رأي المحققين من النحاة وعادة المعربين أن يُخَرّجوه على حذف شرط مقدر دل عليه الكلام. والرأيان متقاربان إلا أن ما سلكه المحققون تقدير معنى والتقدير عندهم اعتبار لا استعمال، وما سلكه المعربون تقدير إعراب والمقدر عندهم كالمذكور. ولو لم ينزل الأمر بمنزلة الشرط لما جَاءت الفاء كما في قوله تعالى: {قل لِمَن الأرضُ ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله} [المؤمنون: 84، 85] الآيات. والفاء في قوله: {فقل} فاء الفصيحة، أي إن قالوا ذلك فقل أفلا تتقون. والفاء في قوله: {أفلا تتقون} فاء التفريع، أي يتفرع على اعترافكم بأنه الفاعل الواحد إنكار عدم التقوى عليكم. ومفعول {تتقون} محذوف، تقديره تتقونه، أي بتنزيهه عن الشريك. وإنما أخبر الله عنهم بأنهم سيعترفون بأن الرازق والخالق والمدبر هو الله لأنهم لم يكونوا يعتقدون غير ذلك كما تكرر الإخبار بذلك عنهم في آيات كثيرة من القرآن. وفيه تحدّ لهم فإنهم لو استطاعوا لأنكروا أن يكون ما نسب إليهم صحيحاً، ولكن خوفهم عار الكذب صرفهم عن ذلك فلذلك قامتْ عليهم الحجة بقوله: {فقل أفلا تتقون}.
{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} الفاء للتفريع على الإنكار الذي في قوله: {أفلا تتقون} [يونس: 31]، فالمفرع من جملة المقول. واسم الإشارة عائد إلى اسم الجلالة للتنبيه على أن المشار إليه جدير بالحكم الذي سيذكر بعد اسم الإشارة مِن أجْل الأوصاف المتقدمة على اسم الإشارة وهي كونه الرازق، الواهب الإدراك، الخالق، المدبر، لأن اسم الإشارة قد جمعها. وأومأ إلى أن الحكم الذي يأتي بعده معلل بمجموعها. واسم الجلالة بيان لاسم الإشارة لزيادة الإيضاح تعريضاً بقوة خطئهم وضلالهم في الإلهية. و{ربكم} خبر. و{الحق} صفة له. وتقدم الوصف بالحق آنفاً في الآية مثل هذه. والفاء في قوله: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} تفريع للاستفهام الإنكاري على الاستنتاج الواقع بعد الدليل، فهو تفريع على تفريع وتقريع بعد تقريع. و {ماذا} مركَّبٌ من (ما) الاستفهامية و(ذا) الذي هو اسم إشارة. وهو يقع بعد (ما) الاستفهامية كثيراً. وأحسن الوجوه أنه بعد الاستفهام مزيد لِمجرد التأكيد. ويعبر عن زيادته بأنه ملغى تجنباً من إلزام أن يكون الاسم مزيداً كما هنا. وقد يفيد معنى الموصولية كما تقدم في قوله تعالى: {ماذا أراد الله بهذا مثلاً} في سورة [البقرة: 26]. وانظر ما يأتي عند قوله: {ماذا يستعجل منه المجرمون} في هذه [السورة: 50]. والاستفهام هنا إنكاري في معنى النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء في قوله: إلا الضلال}. و {بعْدَ} هنا مستعملة في معنى (غير) باعتبار أن المغاير يحصل إثر مغايره وعند انتفائه. فالمعنى: ما الذي يكون إثر انتفاء الحق. ولما كان الاستفهام ليس على حقيقته لأنه لا تردد في المستفهَم عنه تعيّن أنه إنكار وإبطال فلذا وقع الاستثناء منه بقوله: {إلا الضلال}. فالمعنى لا يكون إثر انتفاء الحق إلا الضلال إذ لا واسطة بينهما. فلما كان الله هو الرب الحق تعين أن غيره مما نسبت إليه الإلهية باطل. وعبر عن الباطل بالضلال لأن الضلال أشنع أنواع الباطل. والفاء في {فأنَّى تصرفون} للتفريع أيضاً، أي لتفريع التصريح بالتوبيخ على الإنكار والإبطال. و {أنَّى} استفهام عن المكان، أي إلى مكان تَصرفكم عقولكم. وهو مكان اعتباري، أي أنكم في ضلال وعماية كمن ضل عن الطّريق ولا يجد إلا من ينعت له طريقاً غير موصلة فهو يُصرف من ضلال إلى ضلال. قال ابن عطية: وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوق كل تفْسير براعة وإيجازاً ووضوحاً. وقد اشتملت هذه الآيات على تسع فاءات من قوله: {فسيقولون الله}: الأولى جوابية، والثانية فصيحة، والبواقي تفريعية.
|